["خلّصونا من المخلّصين: عن أوربا واليونانيين" لسلاڤو جيجاك نشرت في “لندن ريڤيو أوف بوكس” في ٢٥ آيار، ٢٠١٢. ترجمة سنان أنطون]
تخيل مشهداً من فلم سوداوي يصور مجتمعنا في المستقبل القريب. دوريات حرّاس بزي موحد في شوارع شبه مقفرة تبحث في الليل عن المهاجرين والمجرمين والمشردين. يهجمون بوحشية ضد من يعثرون عليه. ما قد يبدو صورة خيالية من هوليوود هو حقيقة في اليونان اليوم. ففي الليل يدور أعضاء حزب الفجر الذهبي الفاشي- الذي فاز بسبعة بالمئة من الأصوات في الدورة الأخيرة من الانتخابات والذي يقال إنه يحظى بدعم خمسين بالمئة من شرطة أثينا- الذين نصبوا أنفسهم حراساً، مرتدين ثياباً سوداء ويعتدون بالضرب على كل من يعثرون عليه من المهاجرين الأفغان والباكستانيين والجزائريين. إذاً هذه هي الطريقة التي يتم بها الدفاع عن أوربا في ربيع ٢٠١٢.
والمشكلة في الدفاع عن الحضارة الأوربية ضد المهاجرين، هي أن ضراوة الدفاع هي نفسها التهديد الأخطر على “الحضارة” من أي عدد من المسلمين. فما حاجة أوربا إلى أعداء إذا كان هؤلاء هم الأصدقاء الذين يدافعون عنها؟ قبل مئة سنة أجاد جي كي جسترتون التعبير عن المأزق الذي واجه منتقدي الدين حين كتب: “ ينتهي الأمر بالرجال الذين يبدأون بمحاربة الكنيسة من أجل الحرية والإنسانية إلى التضحية بالحرية والإنسانية لكي يحاربوا الكنيسة. . . لم يهدم العلمانيون أشياء مقدسة، بل هدموا أشياء علمانية.” إن الكثير من المحاربين الليبراليين يتوقون لمحاربة التطرف اللاديمقراطي إلى درجة أنهم يتخلصون من الحرية والديمقراطية في سبيل محاربة الإرهاب. إذا كان “الإرهابيون” على استعداد لتخريب هذا العالم من أجل حبهم لعالم آخر، فإن هؤلاء الذين يحاربون الإرهاب عندنا مستعدون لتخريب الديمقراطية من أجل كراهيتهم للمسلمين. والبعض منهم يعشق الكرامة الإنسانية لدرجة أنهم مستعدون لشرعنة التعذيب كي يدافعوا عنها. فهي قبل للعملية التي يبدأ بها المدافعون المتطرفون عن الدين بمهاجمة الثقافة العلمانية، ثم ينتهي الأمر بهم إلى التضحية بمعتقداتهم في توقهم لمحو أي مظهر من مظاهر العلمانية التي يكرهونها.
لكن أولئك الذين يهاجمون المهاجرين في اليونان ليسوا التهديد الأساسي، بل نتاج جانبي للتهديد الحقيقي وهو سياسات التقشف التي سببت معضلة اليونان. سيتم إجراء الجولة التالية من الانتخابات في اليونان في السابع عشر من حزيران. وتنذرنا المؤسسة الأوربية بأن هذه الانتخابات حاسمة: لا مصير اليونان وحدها، بل مصير أوروبا كلها على المحك. يقولون إن واحدة من النتيجتين، وهي النتيجة الصحيحة، ستسمح باستمرار عملية إصلاح الاقتصاد عن طريق التقشف، وهي مؤلمة ولكنها ضرورية. والبديل، إذا فاز حزب سيريزا “اليساري المتطرف” سيكون تصويتاً للفوضى ونهاية العالم (الأوربي) كما نعرفه.
إن المتشائمين على حق، لكن ليس للأسباب التي يريدونها. يشتكي منتقدو ترتيباتنا الديمقراطية الحالية من أن الانتخابات لا تقدم خياراً حقيقياً. بل إن ما نحصل عليه هو اختيار من بين حزب من وسط اليمين، وحزب من وسط اليسار لا يوجد أيما فرق بين برامجهما. في السابع عشر من حزيران سيكون هناك خيار حقيقي: المؤسسة (“باسوك” و”الديمقراطية الجديدة”) على جانب، وسيريزا على الجانب الآخر. وكما هو الحال كلما كان هناك خيار حقيقي فإن المؤسسة مذعورة. يقولون بأن الفوضى والفقر والعنف سيحل إذا ما أخفق الناس في الاختيار الصحيح. فاحتمال انتصار حزب سيريزا سيبعث أمواج الذعر في الأسواق العالمية. هذا هو موسم الشخصنة الأيديولوجية: فالأسواق تتحدث كأنها بشر، معبرة عن “قلقها” لما سيحدث إذا فشلت الانتخابات في انتاج حكومة بتفويض البقاء مع برنامج التقشف المالي وإعادة الهيكلة للاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي. لا وقت لدى المواطن اليوناني للقلق من هذه الاحتمالات فلديه ما يكفيه من مخاوف في حياته اليومية التي وصلت بؤساً لم تشهده أوربا منذ عقود.
وتوقعات مثل هذه تحقق نفسها بنفسها. فتؤدى إلى الرعب وتنتج ما تحذّر منه بالضبط. إذا فاز سيريزا فستأمل المؤسسة الأوربية أن نُلقَّن درساً ونعرف بالضبط ما يحدث عندما تكون هناك محاولة لتعطيل حلقة التواطؤ المتبادل بين تكنوقراطية بروكسل وشعبوية معاداة المهاجرين. ولهذا السبب أوضح ألكسس تسيبراز، زعيم سيريزا، في مقابلة أجريت مؤخراً بأن أولوياته في حال فوز سيريزا هي مواجهة الرعب “سيتغلب الناس على الرعب. لن يستسلموا ولن يتم ابتزازهم.” أمام سيريزا مهمة شبه مستحيلة. فصوتهم ليس صوت اليسار المتطرف ”المجنون”، بل صوت العقل إذ يعلو ضد جنون أيديولوجيا السوق. وقد تخلوا عن تخوف اليسار من استلام السلطة باستعدادهم للإمساك بزمام الأمور. لديهم الشجاعة لترتيب الفوضى التي خلقها الآخرون. عليهم أن يمارسوا مزيجاً قوياً من المبدأية والعملية، ومن الالتزام الديمقراطي والاستعداد للتصرف بسرعة وبحزم عند الحاجة. ولكي تكون لديهم أدنى فرصة للنجاح سيحتاجون إلى تضامن أوربي. وهذا لا يعني معاملة شريفة من قبل كل بلد أوربي فحسب، بل مزيداً من الأفكار الخلاقة مثل تشجيع السياحة التضامنية هذا الصيف.
كتب ت س إليوت في “ملاحظات من أجل تعريف الثقافات” بأن هناك لحظات يكون فيها الخيار الوحيد هو بين الهرطقة وعدم الإيمان؛ أي حينما تكون الطريقة الوحيدة لإبقاء الدين حياً هي القيام بانشقاق طائفي. وهذا هو وضع أوربا اليوم. فالهرطقة الجديدة، والتي يمثلها في هذه اللحظة سيريزا، هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ ما يستحق الانقاذ من التجربة الأوربية: الديمقراطية، والثقة بالشعب، والتضامن المتكافئ. . . إلخ. أما إذا تم التغلب بالمناورة على سيريزا فسينتهي بنا الأمر في أوربا بـ”قيم آسيوية” وهذا لا علاقة له بآسيا بالطبع، بل بميل الرأسمالية المعاصرة لتعليق الديمقراطية.
التناقض الذي يعمل بموجبه “التصويت الحر” في المجتمعات الديمقراطية هو كالآتي: المرء حر في الاختيار بشرط أن يختار الخيار الصحيح. ولهذا فعند اختيار الاختيار الخاطئ (كما حدث عندما رفضت إيرلندا الدستور الأوربي) فيتم التعامل مع الخيار كخطأ. وتطالب المؤسسة فوراً بإعادة العملية “الديمقراطية” لكي يتم تصحيح الخطأ. عندما اقترح جورج بابندريو، رئيس الوزراء آنذاك، إجراء استفتاء حول صفقة الإتحاد الأوربي في نهاية العام الماضي، تم رفض الاستفتاء بحد ذاته كخيار باطل.
هناك روايتان رئيسيتان حول الأزمة اليونانية في الإعلام: الرواية الألمانية - الأوربية (اليونان عديمو المسؤولية و كسالى، يبذرون ويتهربون من الضرائب) والرواية اليونانية (سيادتنا القومية موضع تهديد من قبل الليبرالية الجديدة التي تفرضها بروكسل). عندما أضحى من المستحيل تجاهل محنة الشعب اليوناني، ظهرت رواية ثالثة: يتم تمثيل اليونانيين على أنهم ضحايا بحاجة إلى معونة كما لو أن حرباً أو كارثة طبيعية قد ضربت البلد. ومع أن الروايات الثلاث غير حقيقية، إلا أن الثالثة هي الأكثر إثارة للتقزز. اليونانيون ليسوا ضحايا. إنهم في حرب ضد المؤسسة الاقتصادية الأوربية وما يحتاجونه هو التضامن معهم في نضالهم، لأنه نضالنا نحن أيضاً.
ليست اليونان استثناء، بل إنها أرض الاختبار الرئيسية لنموذج اقتصادي اجتماعي جديد، لا حدود لامكانيات تطبيقه: تكنوقراطية منزوعة السياسة تسمح للصيارفة والخبراء الآخرين بتحطيم الديمقراطية. بتخليص اليونان ممّن يسمون مخلّصيها، فإننا نخلّص أوربا من نفسها.